فصل: باب صَلاَةُ الأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.(بَاب فَضْل السُّنَن الرَّاتِبَة قَبْل الْفَرَائِض وَبَعْدهنَّ وَبَيَان عَدَدهنَّ):

فيه حَدِيث أُمّ حَبِيبَة: «مَنْ صَلَّى اِثْنَتَيْ عَشْرَة رَكْعَة فِي يَوْم وَلَيْلَة بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْت فِي الْجَنَّة» وَفِي رِوَايَة: «مَا مِنْ عَبْد مُسْلِم يُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلّ يَوْم اِثْنَتَيْ عَشْرَة رَكْعَة تَطَوُّعًا غَيْر فَرِيضَة إِلَّا بَنَى اللَّه لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة» وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر: «قَبْل الظُّهْر سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَكَذَا بَعْدهَا، وَبَعْد الْمَغْرِب وَالْعِشَاء وَالْجُمْعَة» وَزَادَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ قَبْل الصُّبْح رَكْعَتَيْنِ، وَهَذِهِ اِثْنَتَا عَشْرَة، وَفِي حَدِيث عَائِشَة هُنَا: «أَرْبَعًا قَبْل الظُّهْر وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدهَا وَبَعْد الْمَغْرِب وَبَعْد الْعِشَاء، وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْر صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» وَهَذِهِ اِثْنَتَا عَشْرَة أَيْضًا، وَلَيْسَ لِلْعَصْرِ ذِكْر فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَجَاءَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْل الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ، وَعَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ اِمْرَأَ صَلَّى قَبْل الْعَصْر أَرْبَعًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حَسَن. وَجَاءَ فِي أَرْبَع بَعْد الظُّهْر حَدِيث صَحِيح عَنْ أُمّ حَبِيبَة قَالَتْ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَع رَكَعَات قَبْل الظُّهْر، وَأَرْبَع بَعْدهَا حَرَّمَهُ اللَّه عَلَى النَّار». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حَسَن صَحِيح. وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن مُغَفَّل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلُّوا قَبْل الْمَغْرِب» قَالَ: فِي الثَّالِثَة: لِمَنْ شَاءَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن مُغَفَّل أَيْضًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْن كُلّ أَذَانَيْنِ صَلَاة» الْمُرَاد: بَيْن الْأَذَان وَالْإِقَامَة، فَهَذِهِ جُمْلَة مِنْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي السُّنَن الرَّاتِبَة مَعَ الْفَرَائِض.
قَالَ أَصْحَابنَا وَجُمْهُور الْعُلَمَاء بِهَذِهِ الْأَحَادِيث كُلّهَا، وَاسْتَحَبُّوا جَمِيع هَذِهِ النَّوَافِل الْمَذْكُورَة فِي الْأَحَادِيث السَّابِقَة وَلَا خِلَاف فِي شَيْء مِنْهَا عِنْد أَصْحَابنَا إِلَّا فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْل الْمَغْرِب، فَفيهمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَشْهَرهُمَا: لَا يُسْتَحَبّ، وَالصَّحِيح عِنْد الْمُحَقِّقِينَ: اِسْتِحْبَابهمَا بِحَدِيثَيْ اِبْن مُغَفَّل، وَبِحَدِيثِ اِبْتِدَارهمْ السَّوَارِي بِهَا، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: وَاخْتِلَاف الْأَحَادِيث فِي أَعْدَادهَا مَحْمُول عَلَى تَوْسِعَة الْأَمْر فيها، وَأَنَّ لَهَا أَقَلّ وَأَكْمَلَ فَيَحْصُل أَصْل السُّنَّة بِالْأَقَلِّ، وَلَكِنَّ الِاخْتِيَار فِعْل الْأَكْثَر الْأَكْمَل، وَهَذَا كَمَا سَبَقَ فِي اِخْتِلَاف أَحَادِيث الضُّحَى وَكَمَا فِي أَحَادِيث الْوِتْر فَجَاءَتْ فيها كُلّهَا أَعْدَادهَا بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَر وَمَا بَيْنهمَا لِيَدُلّ عَلَى أَقَلّ الْمُجْزِئ فِي تَحْصِيل أَصْل السُّنَّة وَعَلَى الْأَكْمَل وَالْأَوْسَط، وَاللَّهُ أَعْلَم.
1198- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو خَالِد عَنْ دَاوُدَ بْن هِنْد عَنْ النُّعْمَان بْن سَالِم عَنْ عَمْرو بْن أَوْس عَنْ عَنْبَسَةَ بْن أَبِي سُفْيَان عَنْ أُمّ حَبِيبَة) هَذَا الْحَدِيث فيه أَرْبَعَة تَابِعِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض وَهُمْ: دَاوُدُ وَالنُّعْمَان وَعَمْرو وَعَنْبَسَة، وَقَدْ سَبَقَتْ لِهَذَا نَظَائِر كَثِيرَة.
قَوْله: (بِحَدِيثِ يَتَسَارَّ إِلَيْهِ) هُوَ بِمُثَنَّاةٍ تَحْت مَفْتُوحَة ثُمَّ مُثَنَّاة فَوْق وَتَشْدِيد الرَّاء الْمَرْفُوعَة أَيْ: يُسَرّ بِهِ مِنْ السُّرُور، لِمَا فيه مِنْ الْبِشَارَة مَعَ سُهُولَته، وَكَانَ عَنْبَسَة مُحَافِظًا عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي آخِر الْحَدِيث، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِضَمِّ أَوَّله عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله وَهُوَ صَحِيح أَيْضًا.
قَوْله: (قَالَتْ أُمّ حَبِيبَة فَمَا تَرَكْتهنَّ، وَكَذَا قَالَ عَنْبَسَة وَكَذَا قَالَ عَمْرو بْن أَوْس وَالنُّعْمَان بْن سَالِم) فيه: أَنْ يَحْسُن مِنْ الْعَالِم وَمَنْ يُقْتَدَى بِخَلْفِهِ بِهِ أَنْ يَقُول مِثْل هَذَا وَلَا يَقْصِد بِهِ تَزْكِيَة نَفْسه، بَلْ يُرِيد حَثَّ السَّامِعِينَ عَلَى التَّخَلُّق بِخُلُقِهِ فِي ذَلِكَ وَتَحْرِيضهمْ عَلَى الْمُحَافَظَة عَلَيْهِ وَتَنْشِيطهمْ لِفِعْلِهِ.
1199- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَطَوُّعًا غَيْر فَرِيضَة» هُوَ مِنْ بَاب التَّوْكِيد وَرَفْع اِحْتِمَال إِرَادَة الِاسْتِعَاذَة، فَفيه اِسْتِحْبَاب اِسْتِعْمَال التَّوْكِيد إِذَا اُحْتِيجَ إِلَيْهِ.
1200- قَوْله: «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الظُّهْر سَجْدَتَيْنِ» أَيْ رَكْعَتَيْنِ.

.باب جَوَازِ النَّافِلَةِ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَفِعْلِ بَعْضِ الرَّكْعَةِ قَائِمًا وَبَعْضِهَا قَاعِدًا:

1201- قَوْلهَا: «كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْل الظُّهْر أَرْبَعًا ثُمَّ يَخْرُج فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ يَدْخُل فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» وَذَكَرَتْ مِثْله فِي الْمَغْرِب وَالْعِشَاء وَنَحْوه فِي حَدِيث اِبْن عُمَر. فيه: اِسْتِحْبَاب النَّوَافِل الرَّاتِبَة فِي الْبَيْت، كَمَا يُسْتَحَبّ فيه غَيْرهَا، وَلَا خِلَاف فِي هَذَا عِنْدنَا، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُور، وَسَوَاء عِنْدنَا وَعِنْدهمْ رَاتِبَة فَرَائِض النَّهَار وَاللَّيْل.
قَالَ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف: الِاخْتِيَار فِعْلهَا فِي الْمَسْجِد كُلّهَا، وَقَالَ مَالِك وَالثَّوْرِيُّ: الْأَفْضَل فِعْل نَوَافِل النَّهَار الرَّاتِبَة فِي الْمَسْجِد، وَرَاتِبَة اللَّيْل فِي الْبَيْت. وَدَلِيلنَا هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَفيها التَّصْرِيح بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي سُنَّة الصُّبْح وَالْجُمْعَة فِي بَيْته وَهُمَا صَلَاتَا نَهَار مَعَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَل الصَّلَاة صَلَاةُ الْمَرْء فِي بَيْته إِلَّا الْمَكْتُوبَة» وَهَذَا عَامّ صَحِيح صَرِيح لَا مُعَارِض لَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْعُدُول عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي شَرْعِيَّة النَّوَافِل تَكْمِيل الْفَرَائِض بِهَا إِنْ عَرَضَ فيها نَقْص كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيث فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره، وَلِتَرْتَاضَ نَفْسه بِتَقْدِيمِ النَّافِلَة وَيَتَنَشَّط بِهَا وَيَتَفَرَّغ قَلْبه أَكْمَلَ فَرَاغ لِلْفَرِيضَةِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبّ أَنْ تُفْتَح صَلَاةُ اللَّيْل بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا قَرِيبًا.
1202- قَوْلهَا: «وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا رَكَعَ قَاعِدًا» فيه: جَوَاز النَّفْل قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَة عَلَى الْقِيَام، وَهُوَ إِجْمَاع الْعُلَمَاء.
قَوْله: (كُنْت شَاكِيًا بِفَارِسَ وَكُنْت أُصَلِّي قَاعِدًا فَسَأَلْت عَنْ ذَلِكَ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا) هَكَذَا ضَبَطَهُ جَمِيع الرُّوَاة الْمَشَارِقَة وَالْمَغَارِبَة (بِفَارِسَ) بِكَسْرِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة الْجَارَة وَبَعْدهَا فَاء، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيع الرُّوَاة، قَالَ: وَغَلِطَ بَعْضهمْ فَقَالَ: صَوَابه نَقَارِس، بِالنُّونِ وَالْقَاف، وَهُوَ وَجَع مَعْرُوف؛ لِأَنَّ عَائِشَة لَمْ تَدْخُل بِلَاد فَارِس قَطُّ، فَكَيْف يَسْأَلهَا فيها؟ وَغَلَّطَهُ الْقَاضِي فِي هَذَا وَقَالَ: لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُون سَأَلَهَا فِي بِلَاد فَارِس، بَلْ سَأَلَهَا بِالْمَدِينَةِ بَعْد رُجُوعه مِنْ فَارِس، وَهَذَا ظَاهِر الْحَدِيث، وَأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهَا عَنْ أَمْر اِنْقَضَى هَلْ هُوَ صَحِيح أَمْ لَا؟ لِقَوْلِهِ: وَكُنْت أُصَلِّي قَاعِدًا.
1205- قَوْلهَا: «قَرَأَ جَالِسًا حَتَّى إِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّورَة ثَلَاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَة قَامَ فَقَرَأَهُنَّ ثُمَّ رَكَعَ» فيه: جَوَاز الرَّكْعَة الْوَاحِدَة بَعْضهَا مِنْ قِيَام وَبَعْضهَا مِنْ قُعُود، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَعَامَّة الْعُلَمَاء، وَسَوَاء قَامَ ثُمَّ قَعَدَ، أَوْ قَعَدَ ثُمَّ قَامَ، وَمَنَعَهُ بَعْض السَّلَف، وَهُوَ غَلَط. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَة فِي آخَرِينَ كَرَاهَة الْقُعُود بَعْد الْقِيَام، وَلَوْ نَوَى الْقِيَام ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَجْلِس جَازَ عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور، وَجَوَّزَهُ مِنْ الْمَالِكِيَّة اِبْن الْقَاسِم وَمَنَعَهُ أَشْهَب.
1207- قَوْلهَا: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ وَهُوَ قَاعِد فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَع قَامَ قَدْر مَا يَقْرَأ الْإِنْسَان أَرْبَعِينَ آيَة» هَذَا دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب تَطْوِيل الْقِيَام فِي النَّافِلَة، وَأَنَّهُ أَفْضَل مِنْ تَكْثِير الرَّكَعَات فِي ذَلِكَ الزَّمَان.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَة مَبْسُوطَة، وَذَكَرْنَا اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فيهمَا، وَأَنَّ مَذْهَب الشَّافِعِيّ تَفْضِيل الْقِيَام.
1209- قَوْلهَا: «قَعَدَ بَعْد مَا حَطَمَهُ النَّاس» قَالَ الرَّاوِي: فِي تَفْسِيره يُقَال: حَطَمَ فُلَانًا أَهْله إِذَا كَبُرَ فيهمْ، كَأَنَّهُ لِمَا حَمَلَهُ مِنْ أُمُورهمْ وَأَثْقَالهمْ وَالِاعْتِنَاء بِمَصَالِحِهِمْ صَيَّرُوهُ شَيْخًا مَحْطُومًا، وَالْحَطْم الشَّيْء الْيَابِس.
1211- قَوْلهَا: «لَمَّا بَدَّنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَقُلَ كَانَ أَكْثَر صَلَاته جَالِسًا» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: قَالَ أَبُو عُبَيْد فِي تَفْسِير هَذَا الْحَدِيث: بَدَّنَ الرَّجُل- بِفَتْحِ الدَّال- الْمُشَدَّدَة تَبْدِينًا إِذَا أَسَنَّ.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَمَنْ رَوَاهُ (بَدُنَ) بِضَمِّ، الدَّال الْمُخَفَّفَة فَلَيْسَ لَهُ مَعْنَى هُنَا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ كَثُرَ لَحْمه وَهُوَ خِلَاف صِفَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَال: بَدَنَ يَبْدُن بَدَانَة، وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْد (الضَّمّ) قَالَ الْقَاضِي: رِوَايَتنَا فِي مُسْلِم عَنْ جُمْهُورهمْ (بَدُنَ) بِالضَّمِّ، وَعَنْ الْعُذْرِيّ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَرَاهُ إِصْلَاحًا، قَالَ: وَلَا يُنْكَر اللَّفْظَانِ فِي حَقّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَة فِي صَحِيح مُسْلِم بَعْد هَذَا بِقَرِيبٍ: «فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ اللَّحْم أَوْتَرَ بِسَبْعٍ». وَفِي حَدِيث آخَر: (وَلَحُمَ). وَفِي آخَر: (أَسَنَّ وَكَثُرَ لَحْمه). وَقَوْل اِبْن أَبِي هَالَة فِي وَصْفه: (بَادِن مُتَمَاسِك)، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَاَلَّذِي ضَبَطْنَاهُ وَوَقَعَ فِي أَكْثَر أُصُول بِلَادنَا بِالتَّشْدِيدِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
1212- قَوْله: (عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ السَّائِب بْن يَزِيد عَنْ الْمُطَّلِب بْن أَبِي وَدَاعَة عَنْ حَفْصَة) هَؤُلَاءِ ثَلَاثَة صَحَابِيُّونَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض: السَّائِب وَالْمُطَّلِب وَحَفْصَة.

.بَاب صَلَاة اللَّيْل وَعَدَد رَكَعَات النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْل وَأَنَّ الْوِتْر رَكْعَة وَأَنَّ الرَّكْعَة صَلَاة صَحِيحَة:

قَالَ الْقَاضِي عِيَاض فِي حَدِيث عَائِشَة مِنْ رِوَايَة سَعْد بْن هِشَام: (قِيَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِسْعِ رَكَعَات) وَحَدِيث عُرْوَة عَنْ عَائِشَة: «بِإِحْدَى عَشْرَة مِنْهُنَّ الْوِتْر، يُسَلِّم مِنْ كُلّ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يَرْكَع رَكْعَتَيْ الْفَجْر إِذَا جَاءَهُ الْمُؤَذِّن» وَمَنْ رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة وَغَيْره عَنْ عُرْوَة عَنْهَا: «ثَلَاث عَشْرَة بِرَكْعَتَيْ الْفَجْر»، وَعَنْهَا: «كَانَ لَا يَزِيد فِي رَمَضَان وَلَا غَيْره عَلَى إِحْدَى عَشْرَة رَكْعَة أَرْبَعًا أَرْبَعًا وَثَلَاثًا»، وَعَنْهَا: «كَانَ يُصَلِّي ثَلَاث عَشْرَة، ثَمَانِيًا ثُمَّ يُوتِر ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِس، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْر».
وَقَدْ فَسَّرْتهَا فِي الْحَدِيث الْآخَر مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْر، وَعَنْهَا فِي الْبُخَارِيّ: أَنَّ صَلَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ سَبْع وَتِسْع. وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم بَعْد هَذَا مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَنَّ صَلَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْل ثَلَاث عَشْرَة رَكْعَة، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْد الْفَجْر: سُنَّة الصُّبْح، وَفِي حَدِيث زَيْد بْن خَالِد أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ طَوِيلَتَيْنِ وَذَكَرَ الْحَدِيث، وَقَالَ فِي آخِره: فَتِلْكَ ثَلَاث عَشْرَة.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث إِخْبَار كُلّ وَاحِد مِنْ اِبْن عَبَّاس وَزَيْد وَعَائِشَة بِمَا شَاهَدَهُ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَاف فِي حَدِيث عَائِشَة فَقِيلَ: هُوَ مِنْهَا، وَقِيلَ: مِنْ الرُّوَاة عَنْهَا، فَيَحْتَمِل أَنَّ إِخْبَارهَا بِأَحَد عَشْرَة هُوَ الْأَغْلَب، وَبَاقِي رِوَايَاتهَا إِخْبَار مِنْهَا بِمَا كَانَ يَقَع نَادِرًا فِي بَعْض الْأَوْقَات، فَأَكْثَره خَمْس عَشْرَة بِرَكْعَتَيْ الْفَجْر، وَأَقَلّه سَبْع، وَذَلِكَ بِحَسْب مَا كَانَ يَحْصُل مِنْ اِتِّسَاع الْوَقْت أَوْ ضِيقه بِطُولِ قِرَاءَة، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث حُذَيْفَة وَابْن مَسْعُود، أَوْ لِنَوْمٍ أَوْ عُذْر مَرَض أَوْ غَيْره أَوْ فِي بَعْض الْأَوْقَات عِنْد كِبَر السِّنّ كَمَا قَالَتْ: «فَلَمَّا أَسَنَّ صَلَّى سَبْع رَكَعَات»، أَوْ تَارَة تَعُدّ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ فِي أَوَّل قِيَام اللَّيْل، كَمَا رَوَاهُ زَيْد بْن خَالِد، وَرَوَتْهَا عَائِشَة بَعْدهَا، هَذَا فِي مُسْلِم، وَتَعُدّ رَكْعَتَيْ الْفَجْر تَارَة وَتَحْذِفهُمَا تَارَة أَوْ تَعُدّ إِحْدَاهُمَا، وَقَدْ تَكُون عَدَّتْ رَاتِبَة الْعِشَاء مَعَ ذَلِكَ تَارَة وَحَذَفَتْهَا تَارَة.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَا خِلَاف أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدّ لَا يُزَاد عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُص مِنْهُ، وَأَنَّ صَلَاة اللَّيْل مِنْ الطَّاعَات الَّتِي كُلَّمَا زَادَ فيها زَادَ الْأَجْر، وَإِنَّمَا الْخِلَاف فِي فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا اِخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1215- قَوْله: «وَيُوتِر مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ» دَلِيل عَلَى أَنَّ أَقَلّ الْوِتْر رَكْعَة، وَأَنَّ الرَّكْعَة الْفَرْدَة صَلَاة صَحِيحَة، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَصِحّ الْإِيتَار بِوَاحِدَةٍ وَلَا تَكُون الرَّكْعَة الْوَاحِدَة صَلَاة قَطُّ، وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة تَرُدّ عَلَيْهِ.
قَوْلهَا: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَة رَكْعَة يُوتِر مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا اِضْطَجَعَ عَلَى شِقّه الْأَيْمَن حَتَّى يَأْتِيه الْمُؤَذِّن فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الِاضْطِجَاع بَعْد صَلَاة اللَّيْل وَقَبْل رَكْعَتَيْ الْفَجْر، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَنْ عَائِشَة: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْطَجِع بَعْد رَكْعَتَيْ الْفَجْر» وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس: «أَنَّ الِاضْطِجَاع كَانَ بَعْد صَلَاة اللَّيْل قَبْل رَكْعَتَيْ الْفَجْر».
قَالَ: وَهَذَا فيه رَدّ عَلَى الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه فِي قَوْلهمْ: إِنَّ الِاضْطِجَاع بَعْد رَكْعَتَيْ الْفَجْر سُنَّة.
قَالَ: وَذَهَبَ مَالِك وَجُمْهُور الْعُلَمَاء وَجَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة إِلَى أَنَّهُ بِدْعَة، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ رِوَايَة الِاضْطِجَاع بَعْد رَكْعَتَيْ الْفَجْر مَرْجُوحَة.
قَالَ: فَتُقَدَّم رِوَايَة الِاضْطِجَاع قَبْلهمَا.
قَالَ: وَلَمْ يَقُلْ أَحَد فِي الِاضْطِجَاع قَبْلهمَا أَنَّهُ سُنَّة فَكَذَا بَعْدهَا.
قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم عَنْ عَائِشَة: «فَإِنْ كُنْت مُسْتَيْقِظَة حَدَّثَنِي وَإِلَّا اِضْطَجَعَ» فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَأَنَّهُ تَارَة كَانَ يَضْطَجِع قَبْلُ وَتَارَة بَعْدُ وَتَارَة لَا يَضْطَجِع، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَالصَّحِيح أَوْ الصَّوَاب: أَنَّ الِاضْطِجَاع بَعْدَ سُنَّة الْفَجْر لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدكُمْ رَكْعَتَيْ الْفَجْر فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينه». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَلَى شَرْط الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيث حَسَن صَحِيح. فَهَذَا حَدِيث صَحِيح صَرِيح فِي الْأَمْر بِالِاضْطِجَاعِ.
وَأَمَّا حَدِيث عَائِشَة بِالِاضْطِجَاعِ بَعْدهَا وَقَبْلهَا وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس قَبْلهَا فَلَا يُخَالِف هَذَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ الِاضْطِجَاع قَبْلهَا أَلَّا يَضْطَجِع بَعْد، وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الِاضْطِجَاع بَعْدهَا فِي بَعْض الْأَوْقَات بَيَانًا لِلْجَوَازِ لَوْ ثَبَتَ التَّرْك وَلَمْ يَثْبُت، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَضْطَجِع قَبْلُ وَبَعْدُ، وَإِذَا صَحَّ الْحَدِيث فِي الْأَمْر بِالِاضْطِجَاعِ بَعْدهَا مَعَ رِوَايَات الْفِعْل الْمُوَافَقَة لِلْأَمْرِ بِهِ تَعَيَّنَ الْمَصِير إِلَيْهِ، وَإِذَا أَمْكَنَ الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث لَمْ يَجُزْ رَدّ بَعْضهَا، وَقَدْ أَمْكَنَ بِطَرِيقَيْنِ أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا. أَحَدهمَا: أَنَّهُ اِضْطَجَعَ قَبْلُ وَبَعْدُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَرَكَهُ بَعْد فِي بَعْض الْأَوْقَات لِبَيَانِ الْجَوَاز. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْلهَا: «اِضْطَجَعَ عَلَى شِقّه الْأَيْمَن» دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الِاضْطِجَاع وَالنَّوْم عَلَى الشِّقّ الْأَيْمَن.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَحِكْمَته أَنَّهُ لَا يَسْتَغْرِق فِي النَّوْم، لِأَنَّ الْقَلْب فِي جَنْبه الْيَسَار فَيَعْلَق حِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَغْرِق، وَإِذَا نَامَ عَلَى الْيَسَار كَانَ فِي دَعَة وَاسْتِرَاحَة فَيَسْتَغْرِق.
قَوْلهَا: «حَتَّى يَأْتِيه الْمُؤَذِّن» دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب اِتِّخَاذ مُؤَذِّن رَاتِب لِلْمَسْجِدِ. وَفيه: جَوَاز إِعْلَام الْمُؤَذِّن الْإِمَام بِحُضُورِ الصَّلَاة وَإِقَامَتهَا وَاسْتِدْعَائِهِ لَهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ.
قَوْلهَا: «فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» هُمَا سُنَّة الصُّبْح، وَفيه دَلِيل عَلَى تَخْفِيفهمَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِهِ.
1216- قَوْلهَا: «لَيُسَلِّمُ بَيْن كُلّ رَكْعَتَيْنِ» دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب السَّلَام فِي كُلّ رَكْعَتَيْنِ وَاَلَّذِي جَاءَ فِي بَعْض الْأَحَادِيث: «لَا يُسَلِّم إِلَّا فِي الْآخِرَة» مَحْمُول عَلَى بَيَان الْجَوَاز.
قَوْلهَا: «وَيُوتِر بِوَاحِدَةٍ» صَرِيح فِي صِحَّة الرَّكْعَة الْوَاحِدَة، وَأَنَّ أَقَلّ الْوِتْر رَكْعَة، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا.
1217- قَوْلهَا: «يُصَلِّي مَنْ اللَّيْل ثَلَاث عَشْرَة رَكْعَة يُوتِر مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِس فِي شَيْء إِلَّا فِي آخِرهَا». وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «يُسَلِّم مِنْ كُلّ رَكْعَتَيْنِ». وَفِي رِوَايَة: «يُصَلِّي أَرْبَعًا ثُمَّ أَرْبَعًا ثُمَّ ثَلَاثًا». وَفِي رِوَايَة: «ثَمَان رَكَعَات ثُمَّ يُوتِر بِرَكْعَةٍ». وَفِي رِوَايَة: «عَشْر رَكَعَات وَيُوتِر بِسَجْدَةٍ». وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى آخِره». وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر: «صَلَاة اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى»، هَذَا كُلّه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْوِتْر لَيْسَ مُخْتَصًّا بِرَكْعَةٍ، وَلَا بِإِحْدَى عَشْرَة وَلَا بِثَلَاث عَشْرَة، بَلْ يَحُوز ذَلِكَ وَمَا بَيْنه، وَأَنَّهُ يَجُوز جَمْع رَكَعَات بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَة، وَهَذَا لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَإِلَّا فَالْأَفْضَل التَّسْلِيم مِنْ كُلّ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ فِعْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْره بِصَلَاةِ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى.
1219- قَوْلهَا: «كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَل عَنْ حُسْنهنَّ وَطُولهنَّ» مَعْنَاهُ: هُنَّ فِي نِهَايَة مِنْ كَمَالِ الْحُسْن وَالطُّول مُسْتَغْنِيَات بِظُهُورِ حُسْنهنَّ وَطُولهنَّ عَنْ السُّؤَال عَنْهُ وَالْوَصْف. وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَعَ الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بَعْده- فِي تَطْوِيل الْقِرَاءَة وَالْقِيَام- دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَغَيْره مِمَّنْ قَالَ: تَطْوِيل الْقِيَام أَفْضَل مِنْ تَكْثِير الرُّكُوع وَالسُّجُود.
وَقَالَ طَائِفَة: تَكْثِير الرُّكُوع وَالسُّجُود أَفْضَل.
وَقَالَ طَائِفَة: تَطْوِيل الْقِيَام فِي اللَّيْل أَفْضَل وَتَكْثِير الرُّكُوع وَالسُّجُود فِي النَّهَار أَفْضَل، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة مَبْسُوطَة بِدَلَائِلِهَا فِي أَبْوَاب صِفَة الصَّلَاة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَام قَلْبِي» هَذَا مِنْ خَصَائِص الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ، وَسَبَقَ فِي حَدِيث نَوْمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَادِي فَلَمْ يَعْلَم بِفَوَاتِ وَقْت الصُّبْح حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْس، وَأَنَّ طُلُوع الْفَجْر وَالشَّمْس مُتَعَلِّق بِالْعَيْنِ لَا بِالْقَلْبِ، وَأَمَّا أَمْر الْحَدَث وَنَحْوه فَمُتَعَلِّق بِالْقَلْبِ، وَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ فِي وَقْت يَنَام قَلْبه، وَفِي وَقْت لَا يَنَام، فَصَادَفَ الْوَادِي نَوْمه. وَالصَّوَاب الْأَوَّل.
1220- قَوْلهَا: «كَانَ يُصَلِّي ثَلَاث عَشْرَة رَكْعَة يُصَلِّي ثَمَان رَكَعَات ثُمَّ يُوتِر، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِس، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَع قَامَ فَرَكَعَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْن النِّدَاء وَالْإِقَامَة مِنْ صَلَاة الصُّبْح» هَذَا الْحَدِيث أَخَذَ بِظَاهِرِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَد فِيمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْهُمَا؛ فَأَبَاحَا رَكْعَتَيْنِ بَعْد الْوِتْر جَالِسًا، وَقَالَ أَحْمَد: لَا أَفْعَلهُ وَلَا أَمْنَع مَنْ فَعَلَهُ.
قَالَ: وَأَنْكَرَهُ مَالِك. قُلْت: الصَّوَاب: أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَعَلَهُمَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد الْوِتْر جَالِسًا؛ لِبَيَانِ جَوَاز الصَّلَاة بَعْد الْوِتْر، وَبَيَان جَوَاز النَّفْل جَالِسًا، وَلَمْ يُوَاظِب عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فَعَلَهُ مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّات قَلِيلَة، وَلَا تَغْتَرّ بِقَوْلِهَا: كَانَ يُصَلِّي؛ فَإِنَّ الْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ: أَنَّ لَفْظَة (كَانَ) لَا يَلْزَم مِنْهَا الدَّوَام وَلَا التَّكْرَار، وَإِنَّمَا هِيَ فِعْل مَاضٍ يَدُلّ عَلَى وُقُوعه مَرَّة، فَإِنْ دَلَّ دَلِيل عَلَى التَّكْرَار عُمِلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا تَقْتَضِيه بِوَضْعِهَا، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «كُنْت أُطَيِّب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِلِّهِ قَبْل أَنْ يَطُوف»، وَمَعْلُوم أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجّ بَعْد أَنْ صَحِبَتْهُ عَائِشَة إِلَّا حَجَّة وَاحِدَة وَهِيَ حَجَّة الْوَدَاع، فَاسْتَعْمَلَتْ (كَانَ) فِي مَرَّة وَاحِدَة، وَلَا يُقَال: لَعَلَّهَا طَيَّبَتْهُ فِي إِحْرَامه بِعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَمِر لَا يَحِلّ لَهُ الطِّيب قَبْل الطَّوَاف بِالْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا اِسْتَعْمَلَتْ (كَانَ) فِي مَرَّة وَاحِدَة، كَمَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَا حَدِيث الرَّكْعَتَيْنِ جَالِسًا؛ لِأَنَّ الرِّوَايَات الْمَشْهُورَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا عَنْ عَائِشَة مَعَ رِوَايَات خَلَائِق مِنْ الصَّحَابَة فِي الصَّحِيحَيْنِ مُصَرِّحَة بِأَنَّ آخِر صَلَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْل كَانَ وِتْرًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَادِيث كَثِيرَة مَشْهُورَة بِالْأَمْرِ بِجَعْلِ آخِر صَلَاة اللَّيْل وِتْرًا مِنْهَا: «اِجْعَلُوا آخِر صَلَاتكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» و«صَلَاة اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْت الصُّبْح فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ»، وَغَيْر ذَلِكَ فَكَيْف يُظَنّ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيث وَأَشْبَاههَا أَنَّهُ يُدَاوِم عَلَى رَكْعَتَيْنِ بَعْد الْوِتْر وَيَجْعَلهُمَا آخِر صَلَاة اللَّيْل؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ بَيَان الْجَوَاز، وَهَذَا الْجَوَاب هُوَ الصَّوَاب.
وَأَمَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي عِيَاض مِنْ تَرْجِيح الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة وَرَدّ رِوَايَة الرَّكْعَتَيْنِ جَالِسًا فَلَيْسَ بِصَوَابٍ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيث إِذَا صَحَّتْ وَأَمْكَنَ الْجَمْع بَيْنهَا تَعَيَّنَ، وَقَدْ جَمَعْنَا بَيْنهَا وَلِلَّهِ الْحَمْد.
قَوْله: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بِشْر الْحَرِيرِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة، وَسَبَقَ التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي مُقَدِّمَة هَذَا الشَّرْح.
قَوْله: غَيْر أَنَّ فِي حَدِيثهمَا: «تِسْع رَكَعَات يُوتِر مِنْهُنَّ» كَذَا فِي بَعْض الْأُصُول، «مِنْهُنَّ» وَفِي بَعْضهَا: «فيهنَّ» وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
1221- قَوْله: «مِنْهَا رَكْعَتَيْ الْفَجْر» كَذَا فِي أَكْثَر الْأُصُول. وَفِي بَعْضهَا: «رَكْعَتَا» وَهُوَ الْوَجْه، وَيُتَأَوَّل الْأَوَّل عَلَى تَقْدِير يُصَلِّي مِنْهَا رَكْعَتَيْ الْفَجْر.
1222- قَوْلهَا: «وَيُوتِر بِسَجْدَةٍ» أَيْ بِرَكْعَةٍ.
1223- قَوْله: «وَثَبَ» أَيْ قَامَ بِسُرْعَةٍ فَفيه الِاهْتِمَام بِالْعِبَادَةِ وَالْإِقْبَال عَلَيْهَا بِنَشَاطٍ، وَهُوَ بَعْض مَعْنَى الْحَدِيث الصَّحِيح: «الْمُؤْمِن الْقَوِيّ خَيْر وَأَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ الْمُؤْمِن الضَّعِيف».
قَوْلهَا: «ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ» أَيْ: سُنَّة الصُّبْح.
1224- قَوْله: (عَمَّار بْن رُزَيْق) بِرَاءٍ ثُمَّ زَاي.
قَوْلهَا: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْل حَتَّى يَكُون آخِرُ صَلَاتِهِ الْوِتْرَ» فيه: دَلِيل لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ السُّنَّة جَعْل آخِر صَلَاة اللَّيْل وِتْرًا، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاء كَافَّة: وَسَبَقَ تَأْوِيل الرَّكْعَتَيْنِ بَعْده جَالِسًا.
1225- قَوْلهَا: «كَانَ يُحِبّ الْعَمَل الدَّائِم» فيه: الْحَثّ عَلَى الْقَصْد فِي الْعِبَادَة، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَلَّا يَحْتَمِل مِنْ الْعِبَادَة إِلَّا مَا يُطِيق الدَّوَام عَلَيْهِ ثُمَّ يُحَافِظ عَلَيْهِ.
قَوْلهَا: «كَانَ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخ قَامَ فَصَلَّى» الصَّارِخ هُنَا هُوَ الدِّيك بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء قَالُوا: وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ صِيَاحِهِ.
1227- قَوْلهَا: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْر، فَإِنْ كُنْت مُسْتَيْقِظَة حَدَّثَنِي وَإِلَّا اِضْطَجَعَ» فيه: دَلِيل عَلَى إِبَاحَة الْكَلَام بَعْد سُنَّة الْفَجْر، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَالْجُمْهُور.
وَقَالَ الْقَاضِي: وَكَرِهَهُ الْكُوفِيُّونَ، وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَبَعْض السَّلَف؛ لِأَنَّهُ وَقْت اِسْتِغْفَار، وَالصَّوَاب: الْإِبَاحَة لِفِعْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَوْنه وَقْت اِسْتِحْبَاب الِاسْتِغْفَار لَا يَمْنَع مِنْ الْكَلَام.
1228- قَوْلهَا: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْل فَإِذَا أَوْتَرَ قَالَ: قَوْمِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَة» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِذَا بَقِيَ الْوِتْر أَيْقَظَهَا فَأَوْتَرَتْ». فيه: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ جَعْل الْوِتْر آخِر اللَّيْل، سَوَاء كَانَ لِلْإِنْسَانِ تَهَجُّد أَوْ لَا، إِذَا وَثِقَ بِالِاسْتِيقَاظِ آخِر اللَّيْل إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِإِيقَاظِ غَيْره، وَأَنَّ الْأَمْر بِالنَّوْمِ عَلَى وِتْر إِنَّمَا هُوَ فِي حَقّ مَنْ لَمْ يَثِق كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي الدَّرْدَاء.
1229- سبق شرحه بالباب.
1230- قَوْله فِي أَبِي يَعْفُور: (وَاسْمه: وَاقِد. وَيُقَال وَقْدَان) هَذَا هُوَ الْأَشْهَر، وَقِيلَ: عَكْسه، وَكِلَاهُمَا بِاتِّفَاقٍ، وَهَذَا أَبُو يَعْفُور بِالْفَاءِ وَالرَّاء: أَبُو يَعْفُور الْأَصْغَر السَّامِرِيّ الْكُوفِيّ التَّابِعِيّ، وَاسْمه: عَبْد الرَّحْمَن بْن عُبَيْد بْن بِسْطَاس، وَاتَّفَقَا فِي كُنْيَتهمَا وَبَلَدهمَا وَتَبَعِيَّتهمَا، وَيَتَمَيَّزَانِ بِالِاسْمِ وَالْقَبِيلَة، وَأَنَّ الْأَوَّل يُقَال فيه: أَبُو يَعْفُور الْأَكْبَر، وَالثَّانِي الْأَصْغَر وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاحهمَا أَيْضًا فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي أَيّ الْأَعْمَال أَفْضَل.
قَوْلهَا: «مِنْ كُلّ اللَّيْل أَوْتَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَهَى وِتْره إِلَى السَّحَر». وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «إِلَى آخِر اللَّيْل». فيه: جَوَاز الْإِيتَار فِي جَمِيع أَوْقَات اللَّيْل بَعْد دُخُول وَقْته، وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّل وَقْته، فَالصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا وَالْمَشْهُور عَنْ الشَّافِعِيّ وَالْأَصْحَاب: أَنَّهُ يَدْخُل وَقْته بِالْفِرَاعِ مِنْ صَلَاة الْعِشَاء وَيَمْتَدّ إِلَى طُلُوع الْفَجْر الثَّانِي. وَفِي وَجْه يَدْخُل بِدُخُولِ وَقْت الْعِشَاء. وَفِي وَجْه لَا يَصِحّ الْإِيتَار بِرَكْعَةٍ إِلَّا بَعْد نَفْل بَعْد الْعِشَاء. وَفِي قَوْل: يَمْتَدّ إِلَى صَلَاة الصُّبْح، وَقِيلَ: إِلَى طُلُوع الشَّمْس.
وَقَوْلهَا: «وَانْتَهَى وِتْره إِلَى السَّحَر» مَعْنَاهُ: كَانَ آخِر أَمْره الْإِيتَار فِي السَّحَر، وَالْمُرَاد بِهِ آخِر اللَّيْل كَمَا قَالَتْ فِي الرِّوَايَات الْأُخْرَى. فَفيه: اِسْتِحْبَاب الْإِيتَار آخِر اللَّيْل، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَلَيْهِ.
1232- قَوْله: (قَاضِي كَرْمَان) بِفَتْحِ الْكَاف وَكَسْرهَا.

.باب جَامِعِ صَلاَةِ اللَّيْلِ وَمَنْ نَامَ عَنْهُ أَوْ مَرِضَ:

1233- قَوْله: «فَيَجْعَلهُ فِي السِّلَاح وَالْكُرَاع» الْكُرَاع اِسْم لِلْخَيْلِ.
قَوْله: «رَاجَعَ اِمْرَأَته وَأَشْهَد عَلَى رَجْعَتهَا» هِيَ بِفَتْحِ الرَّاء وَكَسْرهَا، وَالْفَتْح أَفْصَح عِنْد الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ: الْكَسْر أَفْصَح.
قَوْله: (فَأَتَى اِبْن عَبَّاس يَسْأَلهُ فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَعْلَم أَهْل الْأَرْض)؟
فيه: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْء وَيَعْرِف أَنَّ غَيْره أَعْلَم مِنْهُ بِهِ أَنْ يُرْشِد السَّائِل إِلَيْهِ، فَإِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، وَيَتَضَمَّن مَعَ ذَلِكَ الْإِنْصَاف وَالِاعْتِرَاف بِالْفَضْلِ لِأَهْلِهِ وَالتَّوَاضُع.
وَقَوْله: (نُهِينَا أَنْ نَقُول فِي هَاتَيْنِ الشِّيعَتَيْنِ شَيْئًا فَأَبَتْ فيهمَا إِلَّا مُضِيًّا) الشِّيعَتَانِ: الْفِرْقَتَانِ، وَالْمُرَاد تِلْكَ الْحُرُوب الَّتِي جَرَتْ.
قَوْلهَا: «فَإِنَّ خُلُق نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآن» مَعْنَاهُ: الْعَمَل بِهِ وَالْوُقُوف عِنْد حُدُوده وَالتَّأَدُّب بِآدَابِهِ وَالِاعْتِبَار بِأَمْثَالِهِ وَقَصَصه وَتَدَبُّره وَحُسْن تِلَاوَته.
قَوْلهَا: «فَصَارَ قِيَام اللَّيْل تَطَوُّعًا بَعْد فَرِيضَة» هَذَا ظَاهِره أَنَّهُ صَارَ تَطَوُّعًا فِي حَقّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأُمَّة، فَأَمَّا الْأُمَّة فَهُوَ تَطَوُّع فِي حَقّهمْ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخه فِي حَقّه، وَالْأَصَحّ عِنْدنَا نُسْخَة.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض مِنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ يَجِب عَلَى الْأُمَّة مِنْ قِيَام اللَّيْل مَا يَقَع عَلَيْهِ الِاسْم، وَلَوْ قَدْر حَلْب شَاة فَغَلَط وَمَرْدُود بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْله مَعَ النُّصُوص الصَّحِيحَة أَنَّهُ لَا وَاجِب إِلَّا الصَّلَوَات الْخَمْس.
قَوْلهَا: «كُنَّا نَعُدّ لَهُ سِوَاكه وَطَهُوره» فيه: اِسْتِحْبَاب ذَلِكَ وَالتَّأَهُّب بِأَسْبَابِ الْعِبَادَة قَبْل وَقْتهَا وَالِاعْتِنَاء بِهَا.
قَوْلهَا: «فَيَتَسَوَّك وَيَتَوَضَّأ» فيه: اِسْتِحْبَاب السِّوَاك عِنْد الْقِيَام مِنْ النَّوْم.
قَوْلهَا: «وَيُصَلِّي تِسْع رَكَعَات لَا يَجْلِس فيها- إِلَى قَوْلهَا- يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْد مَا يُسَلِّم وَهُوَ قَاعِد» هَذَا قَدْ سَبَقَ شَرْحه قَرِيبًا.
قَوْلهَا: «فَلَمَّا سَنَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ اللَّحْم» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول: «سَنَّ»، وَفِي بَعْضهَا: «أَسَنَّ»، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي اللُّغَة.
قَوْلهَا: «وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْم أَوْ وَجَع عَنْ قِيَام اللَّيْل صَلَّى مِنْ النَّهَار اِثْنَتَيْ عَشْرَة رَكْعَة» هَذَا دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الْمُحَافَظَة عَلَى الْأَوْرَاد، وَأَنَّهَا إِذَا فَاتَتْ تُقْضَى.
1236- قَوْله: (عَنْ يُونُس عَنْ اِبْن شِهَابٍ عَنْ السَّائِب بْن يَزِيد وَعَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه أَخْبَرَاهُ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد الْقَارِيّ قَالَ: سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُول) وَذَكَرَ الْحَدِيث. هَذَا الْإِسْنَاد وَالْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّل بِأَنَّ جَمَاعَة رَوَوْهُ هَكَذَا مَرْفُوعًا، وَجَمَاعَة رَوَوْهُ مَوْقُوفًا، وَهَذَا التَّعْلِيل وَالْحَدِيث صَحِيح وَإِسْنَاده صَحِيح أَيْضًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْقَاعِدَة فِي الْفُصُول السَّابِقَة فِي مُقَدِّمَة هَذَا الشَّرْح، ثُمَّ فِي مَوَاضِع بَعْد ذَلِكَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيح بَلْ الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَالْأُصُولِيُّونَ وَمُحَقِّقُو الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ إِذَا رُوِيَ الْحَدِيث مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا أَوْ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا حُكِمَ بِالرَّفْعِ وَالْوَصْل؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة ثِقَة، وَسَوَاء كَانَ الرَّافِع وَالْوَاصِل أَكْثَر أَوْ أَقَلّ فِي الْحِفْظ وَالْعَدَد. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد فَائِدَة لَطِيفَة وَهِيَ: أَنَّ فيه رِوَايَة صَحَابِيّ عَنْ تَابِعِيّ وَهُوَ السَّائِب عَنْ عَبْد الرَّحْمَن، وَيَدْخُل فِي رِوَايَة الْكِبَار عَنْ الصِّغَار.
وَقَوْله: (الْقَارِيّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاء مَنْسُوب إِلَى الْقَارَّة الْقَبِيلَة الْمَعْرُوفَة سَبَقَ بَيَانه مَرَّات.

.باب صَلاَةُ الأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ:

1237- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاة الْأَوَّابِينَ حِين تَرْمَض الْفِصَال» هُوَ بِفَتْحِ التَّاء وَالْمِيم يُقَال: رَمِضَ يَرْمَض كَعَلِمَ يَعْلَم، وَالرَّمْضَاء: الرَّمَل الَّذِي اِشْتَدَّتْ حَرَارَته بِالشَّمْسِ، أَيْ حِين يَحْتَرِق أَخْفَاف الْفِصَال وَهِيَ الصِّغَار مِنْ أَوْلَاد الْإِبِل- جَمْع فَصِيل- مِنْ شِدَّة حَرّ الرَّمَل. وَالْأَوَّاب: الْمُطِيع، وَقِيلَ: الرَّاجِع إِلَى الطَّاعَة. وَفيه: فَضِيلَة الصَّلَاة هَذَا الْوَقْت.
قَالَ أَصْحَابنَا: هُوَ أَفْضَل وَقْت صَلَاة الضُّحَى، وَإِنْ كَانَتْ تَجُوز مِنْ طُلُوع الشَّمْس إِلَى الزَّوَال.